فصل: رابعًا: المقصود الأعظم لسورة البقرة وعلاقة آية المداينة به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الأول: النظرة الكلية الأولى للآية:

.أولا: موقع سورة البقرة على مدرجة القرآن الكريم:

موقع سورة البقرة على مدرجة القرآن الكريم غير خفي أن ترتيب السور في المصحف الشريف يخالف ترتيبها نزولا، وذلك لاقتران النزول بملابسات ووقائع في حياة الناس زمن البعثة.
والثابت أن سورة البقرة ظلت تتوالى أياتها نزولا سنوات عدة، وكان في أثناء نزول آياتها تنزل آيات سور أخرى، وكان جبريل عليه السلام ينزل بالآية، وموضعها من سورتها على النبي صلى الله عليه وسلم فيأمر النبي عليه الصلاة والسلام كُتّاب الوحي بأن توضع آية كذا في سورة كذا، محددًا موضعه حتى إذا ماتم القرآن الكريم نزولًا كانت كل آية في كل سورة في موضعها المحكم، وكذلك كل سورة في موضعها من النسق الكلي للقرآن الكريم على النحو الذي هو عليه في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا.
وإذا كانت الفاتحة هي أم القرآن؛ فإن البقرة هي السورة البكر، وهي أول الذرية، وهي بداية التفصيل الذي جُمِع في الفاتحة.
كما أنها أطول السور القرآنية، ومن أعلاها قدرًا؛ ولذلك أطلق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنام القرآن.
والسنام هو أعلى شيء في الجمل، وهو الموضع الذي لا يلتصق أبدًا بالتراب، وهو مع ذلك كله مخزن الغذاء عند الجوع.
وكما أن السنام هو أعلى الشيء مكانًا، فهو أعلاه مكانةً أيضًا؛ حيث يقال: مجد مُسنّم؛ أي عظيم.
وعليه فإن السورة تجمع بين عظم المكان والمكانة.
ولما كانت سورة البقرة في بداية القرآن الكريم فقد جمعت أصول العلاج لمشاكل الإنسان، وهي:
العقيدة- والشريعة- والمعاملات.
وهكذا؛ فموقع السورة يشير إلى هذا القدر الكبير من التكاليف؛ فالولد البكر يحمل من الأعباء بقدر ما يحظى من الحب والتقدير.
وكأن القرآن الكريم أريد في بدايته ترسيخ جل هذه الأمور؛ حتى تستقر في القلوب من أول وهلة، فلا يفتح المسلم كتاب الله تعالى، ويستفتح بالفاتحة، ثم يردفها بالبقرة إلا ويجد هذا التفصيل للأمور التي تدور في خلده- من عقيدة، وشريعة، ومعاملات؛ فجاء موقع السورة متناغمًا مع حال المؤمن الذي امتلأت السورة بالإشارة إليه والحديث معه.
فبعد انفتاح النفوس بالفاتحة، واستشرافها إلى الوحي السماوي، تأتي سورة البقرة لتكون الجرعة الأولى من الدواء الشافي لكل داء، تمامًا كما يعطى المريض أول جرعة، وغالبًا ما تكون هي أكبر الجرعات وأكثرها تركيزا، ثم تقل حتى تكون أصغر شيء؛ وهذا ما حدث في القرآن الكريم.

.ثانيًا: المقاصد الكلية داخل سورة البقرة:

يقول الشيخ دراز رحمه الله ما خلاصته: إن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة:
المقدمة من الآية 1- 20 في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من هداية قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يتردد فيه ذو قلب سليم، وإنما يُعرض عنه مَن لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض.
المقصد الأول: دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام من الآية [21- 40].
المقصد الثاني: في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم، والدخول في هذا الدين الحق من [40- 162].
المقصد الثالث: في عرض شرائع الدين الإسلامي مفصلًا من [163- 283].
المقصد الرابع: آية واحدة، وفيها الوازع الديني الباعث على ملازمة الشرائع، والعاصم من مخالفتها، وهى الآية رقم [284].
ثم الخاتمة: في التعريف بالذين استجابوا، وما أعد لهم من [285- 286].
ويقول أستاذي محمود توفيق سعد- حفظه الله- الذي أذهب إليه أن تقسيم العلاّمة دراز أفضل من تقسيمات أخرى إلا أنني أميل إلى أن السورة مكونة من مقدمة وقسمين كبيرين وخاتمة.
المقدمة من الآية [1- 20] مثلما أبان عنه الدكتور دراز.
والقسم الأول: من الآية [21- 167] من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] إلى آخر قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].
وهذا القسم قائم بالحقائق والتكاليف العقدية الإيمانية.
القسم الثاني: من الآية [168- 283] من أول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168] إلى آخر قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283].
وآيات هذا القسم معقودة لبيان أحكام الشريعة؛ لتكتمل بها صورة الإسلام، وهديه؛ عقيدةً وشريعةً.
واستهلال هذا الشطر بدعوة الناس كافة إلى أن يأكلوا مما في الأرض حلالًا طيبا، ولا يتبعوا خطوات الشيطان؛ فهو عدوهم المبين يتناغم مع ما عُقدت له آياته من بيان أحكام الشريعة، وأبرزها أحكام المطعم؛ لأنها أساس الأعمال؛ فإن كل جسم نبت من حرام فإن مآله إلى النار، ولا تقبل صلاته وصيامه ولا زكاته ولا حجه ولا جهاده إلى آخر تلك الشرائع التي فصلتها آيات هذا العقد.
فالتوحيد رأس الجانب العقدي.
وطيب المطعم رأس الجانب التشريعي.
فكانت الدعوة إلى الجانب الأول للناس كافة في مستهل آيات القسم الأول العقدي.
وكانت الدعوة إلى الجانب الآخر للناس كافة في مستهل آيات القسم الثاني التشريعي.
ثم توالت التشريعات؛ ليحقق الأمن من طيب المطعم وأحكام الصيام والجهاد والحج والإنفاق والقتال في الأشهر الحرم، والخمر والميسر، وأحكام الأسرة، وأحكام المعاملات المالية من صدقة وربًا وقرض ورهن، فختم آيات هذا القسم بأطول آية: آية المداينة، فآية الرهن؛ مؤكدا الدعوة إلى الأمانة والقيام بحق الشهادة.
ثم تأتي الخاتمة: في ثلاث آيات [284- 286] مقررة أن الكون كله لله وحده، وأن ما في الأنفس يحاسب عليه؛ فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، فكأن في هذه الآية تعقيبًا على القسمين معًا العقدي والتشريعي، وفي الوقت نفسه توطئة لذكر الذين قاموا بحق هذين القسمين فكان فيه رد عجز السورة على صدرها.
وهذا التقسيم يضع السورة- على طولها- في إطارين اثنين مع وجود مقدمة وخاتمة، وهذا أقرب إلى واقع السورة، وأكثر تحديدًا لأركانها، وأضبط لمعاقدها.
وتحديد هذه الفصول والمعاقد يبتغي من ورائه الوقوف على وجه البلاغة في موقع الآية من السورة..

.ثالثا: وجه البلاغة في موقع الآية:

لقد تبين أن آية الدين تقع في ختام القسم التشريعي، بعدما تكون النفوس قد هُذّبت، وترسخ فيها أصول التوحيد، وتمرست على أنواع العبادات- من صلاة وصيام وحج وجهاد- وكأن الدَّين أعلى قدرًا من حيث حاجته إلى نفوس عالية، وهمم سامقة، وقلوب صافية؛ حتى تمتثل لما فيه من ضوابط وقوانين.
وفرق بين أن تلقي خطابًا لنفس خالية من البواعث والمحرضات، وبين أن تلقي الخطاب نفسه إلى نفوس تشبعت بالإيمان، واستحضرت الآخرة واستعدت لها بأنواع العبادات- لا شك أن هذا الأمر سيكون محل استجابة وموضع قبول.... ومن أجل ذلك وضعت آية الدين بعد كل هذه الرحلة الطويلة من حديث عن العقيدة وموقف الناس منها، ومن حديث عن التشريع وأعمدته الرئيسة؛ فالنفوس صارت مهيئةً،والإيمان في أعلى درجاته، وهذا يصور أهمية استثارة النفوس لتلقي الأوامر والنواهي عامةً؛ ومنها المتعلقة بالأموال.
ثم يأتي الختام الزاخر بما أعده للممتثلين الطائعين الطامعين في عطاء الله تعالى وعفوه.
وكأن ما تقدم من توطئة لا يكفي، فلابد من إحاطة هذه الأوامر والنواهي من جانبيها بسياج منيع؛ حتى لا يترك للنفوس مخرج، أو محيص عنها؛ فيذكر بعد آية الدَّين آيات الختام، وهي آيات باعثة ومحرضة أيضًا على الامتثال والطاعة، لما تحمله من جزاء الطائعين وثواب الممتثلين، بالإضافة إلى ترهيب المعرضين، والتنويه بما ينتظرهم من عذاب أليم.

.رابعًا: المقصود الأعظم لسورة البقرة وعلاقة آية المداينة به:

الإيمان بالغيب- وبخاصة البعث- هو أقرب المعاني إلى مقصود سورة البقرة، وقد انتشر ذلك في السورة على نحو ظاهر؛ فلقد بدأت السورة بقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة 1- 3].
فكان أول صفات المتقين: الإيمان بالغيب.
وفي قصة آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
وتقرّ الملائكة بهذه الحقيقة فتقول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].
ثم يقول مرة أخرى: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33].
{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72].
{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77].
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة 255].
وفي شأن البعث قيل: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46].
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56].
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243].
{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258].
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260].
وكانت آخر آية نزلت هي {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
كما أنه لا توجد سورة جمعت بين أركان الإسلام، والصلاة والزكاة والصيام والحج كما جاءت في سورة البقرة، وهي كلها مبنية على الإيمان بالغيب، والبعث، حتى الجهاد لا يُقدِم عليه إلا من آمن بالغيب، والبعث.
وإذا كان الإيمان بالغيب هو البرهان على صحة العقيدة، وسلامتها من الخلل؛ فلا عجب في أن تجد سورة البقرة دائرة حول هذا المقصد العام، ومن مظاهر ذلك أنها ذكرت في مفتتحها تصنيف الناس من خلال عقيدتهم؛ فهم: إما مؤمنون، أو كافرون، أو منافقون، وهذا تصنيف عقدي في المقام الأول.
وهنا يمكن القول إن ذكر آية المداينة في هذه السورة وتحت مظلة هذه الغاية إنما هو أحد مقومات الحفاظ على العقيدة الصحيحة، وهذا يشير إلى أهمية الشفافية في علاقات الناس المالية، وأثر هذه المعاملات على عقائد الناس.